نبوة محمدﷺ

  بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، محمد بن عبدالله ، المُؤيَّد من ربه بالبينات والحجج ، وعلى آله وصحبه ، الذين بذلوا في نصرة دينه الاموال والمُهج. 


أما بعد : 


لقد قدم لنا النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - من خلال دعوته المباركة ، شواهد كثيرة ومتنوعه تثبت صدق نبوته وانه رسول مرسل من عند الخالق سبحانه وتعالى ، ومن خلال هذا الكُتَيِّب ساستعرض باذن الله بعضا من هذه الشواهد والتي اسأل الله سبحانه وتعالى ان تنفع الباحثين عن الحق من اهل الكتاب وغيرهم ...... آمين 


أولاً : إقرار الله تعالى و شهادته على صدق دعوة نبيه محمد :


لقد بدأ النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - دعوته بمكة معلناً للناس أنه رسول مرسل من الخالق سبحانه وتعالى، وَأَنَّهُ قد أَنزل عليه كتاباً عظيماً اسمه القرآن الكريم ، فأخذ عليه الصلاة والسلام يُسْمِعُ قومه ما قد أوحاه الله إليه من هذا الكتاب ، فكان مما قرأه عليهم وهو في مكة هو قوله سبحانه وتعالى من سورة الاحقاف المكية في الآيه الثامنه : " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ " أي هذا القرآن الذي يسمعونه  " قُلْ إِنِ افْتَريتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ". أي : إن كنت قد تكلمت باسم الله باطلاً وافتريت عليه هذا القرآن لعاقبني الله على الافتراء عقوبة لا تقدرون على دفعها، ولا تملكون شيئاً من ردّها، فكيف أفتريه وأتعرض لعقاب الله !! 

وقرأ عليهم أيضاً قول الله سبحانه وتعالى من سورة الأنعام المكية في الآيه رقم ١٩ : " قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ". 

أي قل لهم يا محمد أي شيء أكبر شهادة من الله حتى يعترفوا بنبوتك، فإن أكبر الأشياء شهادة هو الله سبحانه وتعالى الذي تكلمت أنت باسمه مدعياً النبوة ، فهو سبحانه الشهيد بينك وبينهم في هذه القضية. 


ولقد تحققت شهادته سبحانه وتعالى لرسوله بالحق والصدق ، إذ قد سمح له بعمل المعجزات ، واستجاب له الدعوات ، وحقق له النبوءات ، ولم يتوفاه حتى أكمل رسالته ، وانتصر على كل من وقف في وجه دعوته ، فصارت له الحُجَّة وكتب له النصر والتمكين ، وذلك بعد أن كان ضعيفاً وهم اقوياء وكان فقيرا وهم اغنياء وكان وحيداً وهم ذو عدد ..


وكأنه سبحانه وتعالى يقول لنا من خلال هذه المظاهر : صدق عبدي ونبيي فيما يرويه عني ، وأنا الذي بعثته نبياً رسولاً.


وحاشاه سبحانه وتعالى أن يسمح لهذه المظاهر أن تجتمع فيمن يدعي النبوة كذباً ونفاقاً ، ليضل الناس، بل هي بمقام الإقرار الواضح و التصديق منه سبحانه وتعالى لنبوة رسوله الكريم. 


يروى أن سهيل بن عمرو قام على باب الكعبة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاح بالناس فاجتمعوا إليه فكان مما قال : " كنت اعلم ان هذا الدين سيمتد من طلوع الشمس إلى غروبها. فقالوا له ومن أين علمت ؟ قال : إني رأيت رجلاً وحيداً لا مال له ولا عز - يقصد النبي صلى الله عليه وسلم - قام في ظل هذا البيت فقال : إني رسول الله ، وإني سأظهر ، فكنا بين ضاحك وهازل وراجم ومستجهل ، فما زال أمره ينمي ويصعد حتى دِنّا له طوعاً وكرهاً ، والله لو كان من عند غير الله لكان كالكِسرة في أيدي أي فتى من فتيان قريش .." 


والآن لنتناول - أخي القارئ - هذه المظاهر بشيء من الشرح والتفصيل : 


فعن سماح الله له بعمل المعجزات فالأمثلة كثيرة جداً ، وقد أشار إليها القرآن الكريم بكل وضوح ، وذلك كما يلي : 


1) الآية 14 من سورة الصافات : " وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ .. وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ". 


2) الآية 2 من سورة القمر : " وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ".


3) الآية 25 من سورة الأنعام : " وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ..".


4) الآية 4 من سورة ص : " وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ".


ففي هذه الآيات الكريمات نجد أن التعبير ب " وَإِذَا رَأَوْا آيَةً " يدل بوضوح على انهم شاهدوا معجزة أو معاجز للنبي صلى الله عليه وسلم ، الأمر الذي اجمع عليه كافة علماء المسلمين المعتبرين في العالم ودلت عليه الروايات المتواترة أيضا . 


ومن المسلم به ان الآيات القرآنية سمعية وليست بصرية, وعليه لا يمكن ان يكون قوله تعالى : " وَإِذَا رَأَوْا آيَةً "عائد للآيات القرآنية , بالإضافة إلى ذلك فان التعبير ب : " سِحْرٌ مُبِينٌ و سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ، سَاحِرٌ كَذَّابٌ " يتناسب تماماً مع المعجزات وخوارق العادات ، والواقع ان اتهامهم نبي الإسلام بالسحر ، وترويجهم لهذه المسألة بشكل واسع يدل على انهم رأوا منه خوارق عادات ومعجزات. 


من المهم هنا ان نعرف بأنه لو لم تكن المعجزات حقيقه واقعة في حياته صلى الله عليه وسلم لتشكك المسلمون آن ذاك بمصداقية القرآن الكريم ، و لقالوا كيف يشير القرآن إلى معجزات لم نشاهدها وكيف نصدق ما لم يقع؟! ولكان الأمر باعثا لتكذيب أتباعه له، وهذا لا يفعله عاقل فكيف بمن يدعي النبوة ويريد الناس أن تصدقه؟! 


وأما عن استجابة الله له الدعوات فذلك معلوم بالتواتر من سيرته وأخباره وأحواله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك على سبيل المثال : 


يقول الله سبحانه في الآيه التاسعة من سورة الأحزاب مذكرا المؤمنين وممتنا عليهم : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا ".   

فلقد تجمع الأحزاب - جماعات - من المشركين لقتال النبي ، وكان عددهم نحواً من عشرة آلاف ، مقابل ثلاثة آلآف مسلم فقط ، وتحالفوا مع اليهود القاطنين في شرق المدينة على حرب النبي وأصحابه ، وأشتد الحال على المسلمين الذين حفروا خندقاً بينهم وبين الكفار ، واستمر الكفار قريباً من شهر وهم يحاصرون المسلمين في المدينة .

هنالك دعا النبي ربه قائلاً : " اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمْ الأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ " . 

فاستجاب الله دعاء رسوله وأرسل على الأحزاب ريحاً شديدةً اقضّت مضاجعهم ، وجنوداً زلزلتهم مع ما ألقى الله بينهم من التخاذل ، فأجمعوا أمرهم على الرحيل وترك المدينة النبوية. 


هناك الكثير من المواقف التي استجاب الله لنبيه الكريم فيها دعائه - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا لا يمكن أن يتيسر لكاذب، بل لا يكون إلا لصادق مؤيد من الله .  


من المهم أن نعرف بأنه لو لم تكن تلك الحادثة قد وقعت لتشكك المسلمون آن ذاك في القرآن الكريم ، ولقالوا كيف يمتن الله بها علينا في قوله : "اذْكُرُوا نِعمة اللَّهِ عَلَيْكُمْ" وهي لم تقع في الحقيقه؟! وكيف نصدق مالم يحدث؟!

إلا ان أمره صلى الله عليه وسلم كان يعلوا شيئاً فشيئاً وأتباعه يتزايدون حالاً فحالا فتأمل ! 

وانظر كيف تمنن عليهم بعد ذلك أيضاً بقوله : " وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ". [ الاحزاب : 25 ]

إذ لو لم تكن تلك الحادثة قد وقعت لما امتن بها عليهم ولا احتج بها والوليّ والعدو يسمع ، ولكان الأمر باعثا لتكذيب اتباعه له، وهذا لا يفعله عاقل فكيف بمن يدعي النبوة صلى الله عليه وسلم.


وأما عن قولنا بأن الله حقق له النبوءات فالشواهد على ذلك كثيرة ومتنوعة : 


فلقد جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بكتاب يُخبر فيه عن الله بوعود مستقبلية ستقع ، وبالفعل تحققت هذه الوعود وسمح الله لها أن تقع تصديقاً وتأييداً لنبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم . 

ومن هذه الوعود ما تحقق في حياته صلى الله عليه وسلم ، ومنها ما تحقق بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، وقد جاءت هذه الوعود لتعلن عن أخبار مستقبلية وتجزم بأحداث قادمة كما يلي :


الوعد الجازم بنصرة الله للرسول والتمكين له :


لقد كان النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - يتوعد قريشاً قبل هجرته وهو بمكة، والمسلمون آن ذاك قلة قليلة بينهم، يتوعدهم بنصر الله له وظهوره عليهم، فكان يتلو عليهم من القرآن الكريم، ما أنزل الله بالأمم السابقة، أمة أمة، إلى أن قال لهم كما في سورة القمر المكية : " أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ ، أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ، أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ". وهو ماتم بالفعل !  
وقد تلا عليهم من سورة هود المكية ما جاء من قصة نوح عليه السلام مع قومه ، وكيف أن العاقبة كانت له ، فجاء التعقيب على ذلك بقوله سبحانه وتعالى : " تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ". ( هود : 49 ) أي فاصبر على أذاهم مجتهداً في التبليغ ، فالعاقبة لك كما كانت لنوح في هذه القصة. وهو ماتم بالفعل! 
وتلا عليهم من سورة الانعام المكية وعد الله سبحانه وتعالى بقوله : " فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ". ( الانعام : 5 ) أي ان هذا الحق الذي كذبوه واستهزءوا به - والمراد به هنا النبي وما اوحي اليه - ستأتيهم أخباره عندما ينتصر الاسلام ويعلوا أمره. وهو ماتم بالفعل ! 
وقرأ عليهم من سورة الانعام ايضا وعد الله : " وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ ". ( الانعام : 34 )
وفي هذه الآية تعزية للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن كذبه من قومه، وفيها وعد ضمني بالنصر له كما انتصر اولئك الرسل ، ولهذا قال : " وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَات ٱللَّهِ " قال ابن عباس : أي لمواعيد الله، وفي هذا تقوية للوعد. وقوله : " وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ " أي ولقد جاءك بعض أخبار المرسلين الذين كُذّبوا وأُوذوا كيف أنجيناهم ونصرناهم على قومهم فإِن الله ناصرك كما نصرهم . وهو ماتم بالفعل! 
هذا وبعد أن هاجر عليه الصلاة والسلام الى المدينه المنورة ، أعاد هناك توعده أيضاً لكفار أهل الكتاب وغيرهم من مشركي العرب بنصر الله له وظهوره عليهم ، فتلا عليهم من سورة آل عمران قول الله سبحانه وتعالى : "قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ" ( آل عمران : 12 ) أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار من اليهود وغيرهم ستغلبون أي في الدنيا ، وتحشرون أي يوم القيامة إلى جهنم وبئس المهاد. 
وتلا عليهم من سورة الانفال متوعداً ومنذراً : " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ .." ( الانفال : 36 )
ثم أخبر عليه الصلاة والسلام عن أولئك المتربصين له من يهود ونصارى وغيرهم من مشركي العرب بأنهم مهما فعلوا فلن يستطيعوا أن يطفئوا نور دعوته الربانية ، فقرأ من سورة الصف قول الله سبحانه وتعالى : " يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" ( الصف : 8 )
   ولقد صدق النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به عن ربه ، إذ قد انتصر في النهاية على كل من وقف في وجه دعوته ، فعاد إلي مكة فاتحاً منتصراً كما يعلم الجميع ، فصارت له الكلمة وكانت له النهاية كما قال و أخبر !


الوعد الجازم باستخلاف النبي وأصحابه في الأرض :


تحقق وعد الله سبحانه وتعالى باستخلاف النبي وأصحابه في الأرض وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمناً وقد جاء هذا الوعد في وقت كان المؤمنون فيه قلقين خائفين كما سيأتي ، فأنزل الله وعده العظيم لهم بقوله كما في سورة النور آية : 55 : " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ". 

وهو ما تم بالفعل ، فقد استخلف الله المسلمين ، ومكن لهم دينهم ، وأبدلهم بالخوف أمناً ، فأيةُ آية أو نبوة أصح وأبين من هذه؟! 

ومما يدلك - أخي القارىء - على أن هذا الوعد قد نزل والصحابة غير متمكنين وانهم كانوا خائفين هو قوله : " وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ". 

فلا يجوز أن يخبرهم بما لم يكونوا عليه ويمتن عليهم بذلك والعدو والوليّ يسمعه وهو يعلم أنهم يعلمون أنه قد كذبهم ، ثم يؤكد هذا بأن يقول هذا قول الله لكم ، ووعد الله لا وعدي ..

وانظر كيف جاء تأويل الآية على أوسع معانيها في عصر الصحابة أنفسهم الذين وقع لهم خطاب المشافهة في قوله ( مِنْكُمْ ) فبدلوا من بعد خوفهم أمناً لا خوف فيه ، واستخلفوا في أقطار الأرض .... 


الوعد الجازم بانتصار القلة المستضعفة على الكثرة المتجبرة! 


يقول الله سبحانه وتعالى ممتناً ومذكراً المؤمنين آن ذاك بانتصار القلة القليلة منهم على الكثرة القوية من اعدائهم وذلك بمعركة بدر بقوله سبحانه : " وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ " أي بقلة العدد والسلاح : " فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ". ( آل عمران : 123 )

ومما يزيد من روعة هذا النصر انه جاء نتيجة وعد سابق أعلنه النبي عن ربه ، إذ تقول الآية السابعة من سورة الانفال ، في المؤمنين من أهل بدر : " وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ". [ الأنفال : 7 ] والمعنى كما قال الطبري رحمه الله : " واذكروا أيها القوم" إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ " يعني إحدى الفرقتين : "أنَّهَا لَكُمْ" أي إن ما معهم غنيمة لكم. 

ولو لم يكن هذا الوعد قد صدر فعلاً ، لأعترض المؤمنون آن ذاك من أهل بدر على الآية الكريمة، ولقالوا : كيف يُخبر القرآن عن وعود نحن لم نأخذها؟ ولاتهموا النبي بالكذب ... ولضاع الدين وانتهى .... فتأمل.

ومما يزيد هذا الوعد جمالاً وروعة هو انه قد صدر في وقت كان المسلمون فيه قلة قليلة أمام الاكثرية المتجبرة ، حتى انه - صلى الله عليه وسلم - تلا عليهم قوله سبحانه ممتناً ومذكراً : " وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ " أي بقلة العدد والسلاح : " فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ". ( آل عمران : 123 )

وتلا عليهم قوله سبحانه : " إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ .. "( الانفال : 9 )

فانظر أيها القارىء الكريم كيف يصف استغاثتهم وما كان قد وعدهم به من الظفر بإحدى الطائفتين قبل اللقاء وما نصرهم به على ذلك التفصيل. ولا يجوز أن يقول لهم : قد كنت وعدتكم وقد كنتم خائفين مستضعفين ، فأزلت خوفكم ، وطيبت نفوسكم ، وأنزلت عليكم الماء ، وغشيتكم بالنعاس أمنةً مني ، ونصرتكم بالملائكة . وهو يعلم أنهم يعلمون أنه كاذب ، وأن ذلك لم يكن ، وهذا القول يسمعه العدو والوليُّ ، وهو يمتن به على الصحابة وأتباعه ، ويحتج به على العدو والوليّ ، هذا لا يقع من عاقل ، ولا يتوهمه عاقل تدبر وفكر ، فكيف بمن يدعي النبوة والصدق ، ويريد من كل أحد سمع قوله أن يتبعه ويعتقد ذلك منه ويطيعه. وهؤلاء الذين اتبعوه وأطاعوه وبذلوا أموالهم ودماءهم ، إنما فعلوا ذلك لما اعتقدوه من نبوته ، وعرفوه من صدقه ، وتحققوه من قوله. 


الوعد الجازم بدخول المسلمين المسجد الحرام آمنين ! 


يقول الله سبحانه وتعالى في الاية 27 من سورة الفتح : " لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ". 


تخبرنا الايه الكريمه عن رؤيا عظيمة رآها النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - تتمثل بدخوله واصحابه المسجد الحرام - إذ ان المسجد كان آن ذاك تحت قبضة الوثنيين - وجاءت هذه الايه تحمل بشارة وتأكيداً جازما من الله على صدق تلك الرؤيا وانها كائنة! بل وتصف حال دخولهم المسجد وهم آمنين! دون معارك او سفكٍ للدماء وهم مقصرين ومحلقين!  


فيالها اذن من رؤيا عظيمه وياله من وعد كريم !  


وهنا ينبغي الإلتفات إلى أنّ "اللام" في قوله سبحانه : (لتدخلنّ) هي لام القسم، وأنّ "النون" في آخر الفعل هي للتوكيد، فهو اذن وعد مستقبلي وصريح بدخول النبي ومن معه المسجد الحرام في كامل الأمان ومنتهى الطمأنينة.

وكذلك قوله سبحانه : " لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ " فنجد فيه ثلاث مؤكدات، وهي اللام وقد والقسم المقدر.


من المهم ان نعرف بانه لو لم تتحقق صدقية تلك الرؤيا على أرض الواقع ولو لم يتحقق الوعد الالهي الذي نزل مؤكدا ومصدقا لها، او ان الوعد قد تحقق على عكس ماجاء به من حيث دخول النبي ومن معه المسجد بالقوة والسيف وليسوا آمنين كما تقول الآية : " آمِنِينَ " لترتب على ذلك كله اتهام النبي بالكذب ولانهارت عندئذ دعوته ، ولصار الاسلام صيداً سهلا للجميع سواء من الاتباع او من الاعداء المتربصين! الا ان أمره صلى الله عليه وسلم ظل يعلوا شيئا فشيئا واتباعه يتزايدون حالا فحالا! وقد دخل هو واصحابه المسجد الحرام كما اخبر آمنين محلقين ومقصرين في العام الذي يليه ! 


والمدهش ان الايه قد حملت وعداً آخر متمثلا بقوله سبحانه وتعالى : " فَجَعَلَ مِن دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً " اي انه قبل تحقق الرؤيا سيكون لكم فتحا قريباً ، وهو ماتم بالفعل من خلال صلح الحديبيه وفتح خيبر ! يقول الطبري : " وَكَانَ صُلْح الْحُدَيْبِيَة وَفَتْح خَيْبَر دُون ذَلِكَ ".

ومن المهم هنا ايضا ان نعرف بأنه لو لم يكن هذا الفتح قد تحقق بالفعل لاعترض المؤمنون آن ذاك على النبي ولقالوا ألم يعدنا القرآن بفتح قريب؟!  ولقال اعدائه ألم يعدهم نبيهم بفتح قريب؟!  مما يترتب عليه انهيار دعوة النبي وسقوط حجته القرآنية امام اتباعه واعداءه ! الا ان دعوته صلى الله عليه وسلم ظلت تعلوا شيئا فشيئا واتباعه يتزايدون حالا فحالا!

فمن أصدق من الله قيلا ؟! 

وأما الاستثناء الذي حمله الوعد من قوله سبحانه وتعالى : " 

إن شَاءَ اللهُ " معناه بالوقت الذي يريده الله سبحانه وتعالى وهو يشبه قوله صلى الله عليه وسلم عندما مر بقبور بالمدينة : " وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ ". فإن لحقونا بالأموات متيقن، ولكن المعنى : وإنا نلحق بكم إذا شاء الله ذلك.


الاخبار عن آيات ستظهر للمكذبين في الافاق  :


جاء في الآيه ٥٣ من سورة فصلت ما نصه : 

" سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " 

كلمه الآفاق مفردها ( افق ) ونلاحظ انها وردت في الآية على سبيل الاطلاق فلم يحدد جهة معينه لها ، وبالتالي هي تشمل افق السماء و افق الارض. اي في آفاق السموات والارض ، وفي انفسهم ! 

وقد صدق الله تعالى وعده فكشف للناس عن آياته في الآفاق وفي أنفسهم خلال القرون الأربعة عشر التي تلت هذا الوعد ، مما يتبين به لكل عاقل منصف أن هذا الإسلام حق ، وأن القرآن حق.


وأما قولنا بأن الله لم يتوفاه حتى أكمل – عليه الصلاة والسلام – دعوته وختم رسالته ، وانتصر على كل من عانده ، فدليل ذلك ما يعرفه القاصي والداني من عاقبة أمره صلى الله عليه وسلم وكيف نال النصر والظفر والفتح والتمكين في الأرض ، وقال مخبراً عن ربه : " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ ديناً " [ المائدة : 3 ] .

والمدهش أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد خاطب قومه أيضاً من خلال القرآن الكريم وهو في مكة قبل الهجرة بأنه لو كان كاذباً على الله في دعواه النبوة فسوف لن يدعه الله بل سيقصمه ويهلكه ، فنجد في سورة الحاقة المكية النزول : " وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ". [ الحاقة : 44 - 45 ] 

وعلى الرغم من انه - صلى الله عليه وسلم - قد تعرض بسبب دعوته الإسلامية إلى كثير من المواقف الحرجة جداً والتي أصبحت فيها حياته قاب قوسين أو أدنى من القتل والموت ، إلا أنه كان يخرج منها سالماً وكأن الله سبحانه وتعالى وبإصرار شديد لا يريد لمدعي النبوة هذا إلا أن يكمل دعوته ويختم رسالته! 


ولنأخذ على سبيل المثال الموقف المميت الذي تعرض له في معركة أحد .. وقبل ذلك إجماع المشركين على قتله ليلة الهجرة ، ثم تعقبهم له إلى الغار .. وموقفه البطولي يوم حنين .. وكلها شواهد تاريخية مشهورة معروفة .. فلا مناص اذن من القول ان محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يعمل فى ظل حماية الله ورعايته .. 


وأرى أنه من الروعة أن نقارن كل ذلك مع الوعود التي أخبر عنها النبي عن ربه وهو في مكة يوم لم تكن للإسلام القوة والمنعة بعد ، والمتمثلة في قوله سبحانه تعالى : " وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ". ( الاسراء : 60 ) قال الطبري في تفسيره : " يقول جل ثناؤه : واذكر يا محمد إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس قدرة , فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته , ونحن مانعوك منهم , فلا تتهيب منهم أحدا ". 


وأيضاً قوله سبحانه وتعالى : " وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ". ( الطور : 48 ) أي انك بمرأى منا نراك ونحفظك. 


وقوله سبحانه تعالى : " أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ". ( الزمر : 36 ).


ولذلك فإنني أسألك أخي القارئ .. أيترك الله شخصاً ادعى النبوة وأخذ يتقول عليه كذباً بدون عقاب؟ وهل تبلغ الجرأة بذلك المتقول على الله أن يدعي بأن الله وعده بالحفظ والكفاية من بطش الناس؟ وإذا افترضنا جدلاً بأنه قد افترى على الله كذباً وزعم أن الله وعده بالحفظ والكفاية من بطش الناس ، فهل يُحقق الله كلام ذلك الكذاب ويعصمه فعلاً من بطش الناس ومحاولات القضاء عليه ، حتى يكمل رسالته ويأسس لدولته ويهزم اعدائه ويكثر اتباعه في كل مكان؟ 


والحق ان دليل إقرار الله له ولدعوته - صلى الله عليه وسلم - هو دليل عقلي يخاطب العقول إن كانت تَعِي ! 


ثانياً: يتحدى وينتصر باسم الرب!


لم يكتفي هذا النبي العظيم بدعوى النبوة ، والتكلم باسم الرب سبحانه! بل أخذ أيضاً يتحدى باسم الرب معارضيه من بلغاء العرب وفصحائهم المتقدمين الذين كانوا يتفاخرون فيما بينهم بالشعر والخطابة وحب الكلمة آن ذاك ، تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن الذي يسمعونه منه ، إذ قرأ عليهم وهو في مكة قبل الهجرة والمسلمون آن ذاك قله قليله ، قرأ عليهم قوله سبحانه تعالى من سورة الاسراء المكية : " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ". [ الإسراء : 88 ] 


فماذا كانت نتيجة هذا التحدي؟


ببساطة وبعيدا عن تفاصيل هذا التحدي ومراحله وآياته ، لقد كان المؤمنون في ذلك الوقت يسمعون هذا التحدي ويقرأونه ولو ظهرت أية معارضة فعلية للقرآن لأهتزت قضية الدين عندهم، ولضاع الدين وانتهى وهو في بداية ظهوره ولما آمن بهذا القرآن أحد ، ولأنطفأ أمر النبي صلى الله عليه وسلم واختل حاله بين العرب ، إلا ان أمره صلى الله عليه وسلم كان يعلوا شيئاً فشيئاً وأتباعه يتزايدون حالاً فحالا ...


ولو صح من العرب انهم قبلوا التحدي فعارضوا القرآن الكريم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لترتب عليه سقوط دعوته بعد ظهور هزيمته وانهيار حجته و بطلان معجزته ، فما كان لهذا القرآن ان يدخل في نفوس الناس في بدايات الدعوة في مكة والمدينة ، باذلين من اجله النفس والمال والولد ، يوم لم تكن للإسلام القوة والمنعة بعد ، وثمة معارضون للقرآن من العرب الاقحاح ، يأتون بمثله للناس مظهرين فساد دعوى التحدي في تلك الآيه وغيرها من آيات ، فتأمل !


قال الجاحظ : لو تكلف بعضهم ذلك - يريد المعارضة - فجاء بأمر فيه أدني شبهة ، لعظمت القصة على الأعراب وأشباه الأعراب .. ولكثر القيل والقال ، وان سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أسرع في تفريق أتباعه. [ إعجاز القرآن للدكتور حسين نصار - مكتبة مصر - الفجالة ] 


وتبعه الباقلاني فذكر أنهم لو كانوا عارضوه بما تحداهم إليه لكان فيه توهين أمره ، وتكذيب قوله ، وتفريق جمعه ، وتشتيت أسبابه ، وكان من صدق به يرجع على أعقابه ويعود في مذهب أصحابه ..   

ورأى صاحب المغني : أن المعارضة لو وقعت لكان فيها اضطراب لنفوس أصحابه. [ المصدر السابق ]


ولما لم يكن شيئاً من هذا قد حدث فإننا على يقين تام بأن العرب قد وقفوا أمام هذا التحدي موقف العاجز المهزوم ، وأن عجزهم أمام القرآن ، واعجازه لهم ، دليل على مصدره الالهي من حيث كون أن هذا التحدي قد صدر باسم الله وبعلمه وإذنه سبحانه وتعالى .


 وقد دفع هذا العجز بأهل الاستكبار منهم أن يصفوا هذا القرآن الكريم بقولهم : " هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ " كما في سورة الزخرف المكية آية : 30 ، وبقولهم : " إِنْ هَذَا إلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ " كما في سورة المدثر المكية آية : 24 ، وذهبوا ينعتون هذا الرسول الذي جاءهم بما أعجزهم بقولهم : " إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ " كما في سورة يونس المكية آية : 2 ، وكذلك قولهم : " هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ " كما في سورة ص المكية آية : 4 ، وليس كل ذلك إلا لهزيمتهم وقصور قرائحهم أمام القرآن الكريم ، ومدى تأثيره العجيب في نفوسهم . . 

وقد ذهبوا يتواصون على عدم سماع القرآن والمشاغبة والتشويش عليه قائلين فيما بينهم :" لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ .. " فصلت : 26 ، ونلاحظ من هذه الآية الكريمة انهم أرادوا الغلبة من خلال عدم السماع لهذا القرآن ، وليس من خلال قبولهم التحدي لأنهم قد فهموا حقيقته وانه خارج عن مقدرتهم ، ولذلك لما قال البعض منهم على سبيل الكذب والوقاحة :" لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ " كان هو قول منهم بلا فعل .. يغرون به أنفسهم ومن تبعهم على باطلهم.

ولو لم يكن هذا التحدي حقيقة واقعة في حياته - صلى الله عليه وسلم - لسارع كبار الصحابة من بعده والمؤمنون به وكتاب الوحي وكبار الحفظة القراء وقت جمع القرآن الكريم إلى إنكاره ورفضه ، كيف لا ، وقد ضحوا بأموالهم وأنفسهم شرقاً وغرباً في سبيل نشر هذا الكتاب الذي جاءهم به - صلى الله عليه وسلم - إذ لا مصلحة في تحمل الأذى في سبيل دين باطل يكذب عليهم ...

والآن اسأل نفسك أخي القارئ ، أيترك الله شخصاً ما ، ادعى النبوة كذبا وأخذ يتقول عليه كذباً ويتحدى الناس باسمه بدون عقاب؟ وإذا افترضنا جدلاً بأنه قد افترى على الله كذباً ، وزعم أن الله أوحى إليه بهذا التحدي ، فهل يُحقق الله كلام ذلك الكذاب ويتمم له فعلاً هذا التحدي ويهزم به أرباب الفصاحة والبلاغة ويكثر به أتباعه؟ 


ثالثا : نشأته في بيئة أمية واتيانه بحقائق علمية ! 


كما هو معلوم فإن القرآن الكريم ليس هو بكتاب طب أو فلك أو تشريح أو تاريخ ، فهو لم ينزل لكي ينبئنا بعلوم الدنيا.. إن القرآن الكريم نزل هدى للناس .. فهو كتاب تشريعي عقائدي .. يوضح طريق الايمان و يوجه سلوك المؤمن وارتباطه بالله في هذه الحياة الدنيا كي يتم له الفوز بالآخرة ...

ولكنه مع ذلك يحوي اشارات ولفتات علمية تخاطب العقل وتدله على مصدره الإلهي... فالقرآن وإن لم يأت ليعلمنا الفلك مثلاً .. إلا انه يأتي فيمس قضية فلكية ويخبرنا عنها بينما علم الفلك لم يصل إليها إلا بعد مئات السنين .. يأتي في الجغرافيا مثلا ويمس قضية هامة لم يكتشفها العلماء إلا بعد مئات السنين ... وهكذا ... الامر الذي يدل على مصدر هذا الكتاب الرباني .


وكأمثلة على تلك الحقائق العلمية الواردة في القرآن الكريم نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر  :


1) الدخان الكوني  cosmic smoke  ( فصلت : 11 ) 

2) مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان! ( الرحمن : 19)

3) والقى في الارض رواسي ان تميد بكم ! ( لقمان : 10 ) 

4) كل في فلك يسبحون ! ( الانبياء : 33 ) 

5 ) جريان الشمس ! ( يس : 38 ) 

6 ) ادنى الارض اخفض منطقة على اليابسه ( الروم : 3 )

7 ) هناك ماهو اصغر من الذرة ( يونس : 61 ) 

8 ) النجم الثاقب ! ( الطارق : 3 ) 

9 ) الجبال اوتادا ( النبأ : 7 ) 

10 ) الجبال الملونه في الصين ( فاطر : 27 )

11 ) انزال الحديد ( الحديد : 25 ) 

12 ) البحر المسجور المتقد نارا  ( الطور : 6 ) 

13 ) بصمات الأصابع ( القيامة : 4 ) 

14 ) وارسلنا الرياح لواقح ( الحجر : 22 ) 

15 ) مراحل نمو الجنين ! ( المؤمنون 12 ) 

16 ) الظلمات الثلاث ! ( الزمر : 6 ) 


والسؤال كيف وصلت كل هذه المعلومات المختلفة والمتنوعة إلى سيدنا محمد؟! وكيف استطاع ان يعبر عنها بكلمات فصيحة وبليغة؟!

 

رابعا : عاش بين أصحابه وأهله وزوجاته : 

لقد عاش محمد بين أصحابه وأهله وزوجاته ، لذلك لم تكن تصرفاته تخفى على أحد ، فكان كالكتاب المفتوح بينهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ..


وقد تنبه لذلك ( الكاتب الإنكليزي هـ. ج ويلز ) حين قال : ان من أدفع الأدلة على صدق محمد كون أهله واقرب الناس إليه يؤمنون به، فقد كانوا مطلعين على أسراره، ولو شكوا في صدقه لتركوا الإيمان به. قلت : ولتركوا التضحية بالموت من أجل دعوته. 

خصوصا وانهم عاشوا معه فترات كان الإسلام فيها ضعيفاً ، لم يكن له مال يبذله لهم ولا سيف يخيفهم به. 

ولقد عايش الصحابة رضوان الله عليهم صفة الصدق فيه - صلى الله عليه وسلم - فلولا صدقه - صلى الله عليه وسلم - لما استمر الصحابة رضوان الله عليهم في دعوته باذلين من أجلها المال والنفس والتضحية.


ومن جانب آخر علينا الا ننسى بان محمد صلى الله عليه وسلم رجل أثارت دعوته الى توحيد الله سبحانه وتعالى ومحاربة الأوثان حفيظة المشركين وحميتهم بحيث شكلوا خطراً حقيقياً على حياته .... ويكفي ان نعرف بأن غزوة الاحزاب التي ذكرها القرآن الكريم والتي اتحد فيها المشركون واليهود لمحاربة الإسلام واستئصاله، هي خير شاهد على مانقول .... وغيرها كثير من المؤامرات الهادفة للقضاء عليه وعلى دعوته.


لا يُمكن لعاقل أن يُصدق أن رجل مثل محمد، صلى الله عليه وسلم، والذي انشغل بأعدائه ومحاربتهم .... وانشغل بدعوة الناس دعوة عملية .... و انشغل باصحابه وزوجاته وتعليمهم ....

لا يُمكن لعاقل ان يُصدق أن هذا الرجل استطاع في ظل هذه المحن والمشاغل أن يأتي بكتاب يتناول فيه جوانب مختلفة من العلوم والمعارف البلاغية والأدبية ، والتربوية ، والتشريعية ، والعلمية ، وغير ذلك. فضلا عن ان يتحدى به قومه ! 

لا يمكن لعاقل أن يتخيل أن كل هذا من نتاج فكر رجل عاش حياة كتلك التي عاشها محمد صلى الله عليه وسلم ... 


لقد كانت حياته مليئة بالمحن والمشاغل التي تتطلب انشغال الذهن بأمور بعيده كل البعد عن الإخبار عن حقائق علمية او وعود مستقبلية أو التأسيس لمناهج تربوية ... لكنه الله سبحانه وتعالى الذي علم رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وأوحى إليه ما أوحى ..